احتضار قصه حقيقه (منقوله)
صفحة 1 من اصل 1
احتضار قصه حقيقه (منقوله)
إحتضار
المكان: المستشفي التخصصي قسم الأورام
الزمان: أواخر رمضان
يقال أنك لا ينبغي أن تنظر إلى إحداهن فتعرف عمرها.. يقال أنها من بديهيات الأمور أن تكذب المرأة فيما يخص عمرها الحقيقي قولا وفعلا مهما ارتقت بثقافتها وعلاقاتها الاجتماعية.. المبالغة في التزين واستخدام المساحيق والأقنعة - أقصد اقنعة الخيار والعسل والفواكه وما إلى ذلك - ولكن ما حدث معي ذلك اليوم كان من الشذوذ عن هذه القاعدة بمكان.
هي امرأة سبقت حالة جسدها عمرها الحقيقي بعقود من المعاناة، تقطعت قسماتها بتجاعيد حفرها الألم المستمر.. وذبلت عيناها على نظرة غريبة خليط من يأس ورجاء امرأة اختبرت قسوة الحياة فخذلها الجسد سريعا..، وسقط، فقط ليسقط عندنا في وحدة زرع النخاع الرهيبة..، حيث الأمل يتجدد يوما، ويوما ينسحق تحت وطأة المرض واستحالة العلاج..
تلقفتها ايدي اعتادت على مناظرة الألم والموت فلم تعد تسأل أو تتفاعل..، لليأس والإحباط جمهور عريض هنا ومريدين من كل أنحاء المحروسة، بدءا بالأطفال المرفوع عنهم القلم، مرورا بالشباب اليافع المفعم بالطموح المبتور، وصولا إلى هذه السيدة ومن مثلها.. أم لطفلتين زهرتين - يؤلمني أنه سيكون عليهما فيما بعد الخضوع للعديد من الفحوصات والمتابعات لاستبعاد ما إذا كانت إحداهما أو كلاهما قد التقطت في خلاياها ذلك الجين اللعين المسئول - مطلقة حديثا هي..
همسات متناثرة بين افراد التمريض و بعض المترددين: "سبحان الله.. وقعت مرة واحدة ربنا يرحم اولادها.." ، "دي كانت زي الجمل ياعيني انا اعرفها ساكنة في الشارع اللي ورايا.." ، "يا منجي من المهالك يا رب.. ودي فين جوزها ميت ولا الندالة بقت عادي حتي يساعد عشان نقدر نلاقي متبرع ينفع..".. وقد صار بحثها عن متبرع مطابق حديث المكان خلال أيام ولسان حال الجميع كأنه يقول في تضرع: "اللهم نج هذه السيدة من أجل صغيرتيها".. مرت الأيام والمرأة تدخل في الغيبوبة تلو الأخرى تعود من آن لآخر نصف عودة فلا تتحصل من عودتها الهزيلة إلا على المزيد من الشفقة..
******
المكان: محكمة الاستئناف جنوب العاصمة
الزمان: ٢ رمضان
جلسة منعقدة.. قضايا متتالية.. قاضي ومستشارين.. أحوال شخصية.. وأمام المنصة تقف امرأة ممشوقة القوام في أواسط العمر وقد علا محياها التحفز وتأفف مكتوم..، بجوارها وقف شيخ متواضع الهيئة.. ضعيف البنية.. وقد نكس بصره لأسفل.. بعد مشاورة قصيرة، القاضي موجها كلامه للمرأة:" يابنتي إنتي أكيد متوقعة الحكم.. مش حاسة انك عايزة تراجعي نفسك؟"
المرأة:"يا سيادة القاضي انا فعلا اتحملت كتير عشان بناتي بس انتوا سمعتوا بنفسكم شهادة الشهود.. ده كان ضرب موت.."
الشيخ الواقف هامسا في أسى: "والله مأجورين.. والله ظلم.."
القاضي ملتفتا إلى الشيخ: "بتقول ايه يا حاج؟ علي صوتك.."
الشيخ يرفع عينين دامعتين: "انا مش عارف جنابك ايه اللي بيحصل ده بس والله انا ما اقدر اضربها حتى لو حاولت.."
القاضي للمرأة: "راجعي نفسك يا بنتي احنا في بداية شهر كريم وأيام مفترجة.. وجوزك شكله باقي عليكي وأضعف من إنه يئذيكي راجعي نفسك.."
المرأة بتحدي: "الهي ما اوعى اكمل الشهر الكريم يا بيه لو كنت بافتري عليه.."
القاضي زافرا بتوتر وعائذا بظهره إلى الوراء: "الحكم للمدعية طبقا للقانون رقم..........."
الشيخ ينخرط في البكاء
المرأة تلتفت مغادرة
الحاجب: "القضية رقم ٥٦٢١ لسنة..........."
******
المكان: مكتبي
الزمان: ٢٦ رمضان
تغادر الممرضه بشيت أوامر الطبيب واستعد لمغادرة المكتب بدوري للمرور، ولكن الباب يبقيه احدهم مفتوحا ويدلف إلى المكتب شيخ تبدو عليه إمارات السماحة والطيبة أرفع إليه ناظري فيقترب قائلا: "ممكن لحظة يا دكتور؟"
أشير إلى المقعد أمام مكتبي: "اتفضل يا والدي استريح.. خير؟"
يجلس بتؤدة ثم يعتدل ليواجهني قائلا بصوت هادئ: "أولا السلام عليكم معلش لو هاخد من وقتك يا بني........" ثم يستطرد سائلا عن حالة بعينها..
يسكت ثم تتغير ملامحه لنظرة الأسف على وجهي وأنا أقول: "أنا عارف يا حاج إن موضوع بنتك بالذات مولم بس ده قضاء ربنا.." "الحقيقة هي حاليا في غيبوبة عميقة.. أنا نقلتها لقسم العناية المركزة إمبارح الصبح وباتابع حالتها بس للأسف الدكتور النوبتجي مش مطمئن لتطور الوضع.."
تدمع عيناه في استكانة لألم نفسي واضح ثم يقاطعني برفق: "معلش يابني بس انت تقصد انه خلاص مافيش أمل؟!"
أعقب بسرعة: "الأمل طبعا في الله يا حاج.."
تقاطعني إطراقة رأسه.. ثم يتمتم في حزن عميق: "إنا لله وإنا إليه راجعون" ثم يجهش في البكاء فجأة ويقول من بين دموعه: "هي فعلا بنتي وحبيبتي وأمي وكل ما حبيته في الدنيا دي.. ليك الأمر من قبل و من بعد يا رب.."
اشعر باجلال بالغ لهذه اللحظة ولكن يغادرني السؤال رغما عني: "هو حضرتك زوجها أنا آسف افتكرت غير كده اعذرني.."
يرد وقد هدأ بكاؤه وإن كان مستمرا: "كانت زوجتي لحد اسبوعين فاتوا.."
تركته ليكمل فاستطرد: "الشيطان لعب بدماغها وشبابها واتغيرت بعد عشر سنين عشرة وأولاد.. هاقول إيه بس..." ثم فجأة قرر المغادرة فسألني مباغتة: "دكتور.. لو ممكن احسنلها ناخدها على البيت بدل البهدلة في المستشفى يعني لو حالتها ميئوس منها أنا مستعد أتكفل بكل شيئ في البيت بس تستريح آخر ساعاتها وسط أهلها.. ممكن؟"
اربكني طلبه للحظة ثم رددت وكان هو يقوم بالفعل من على مقعده فقمت بدوري قائلا: "يا حاج هي مش عندي في القسم دلوقتي بس تقدر حضرتك تتكلم مع الدكتور في العناية يفيدك أكتر.."
شكرني بسرعة وصافحني: "شكرا على وقتك يا دكتور.." ثم أولاني ظهره ببطء وهو يدعو لي بالصحة وتوجه نحو الباب.. "يا حاج علي مهلك انت مستعجل اجيبلك حد يوصلك ولا آجي اوصلك...."
إلتفت نصف التفاتة وعلى وجهه نظرة لن أنساها وقال: "لازم اتحرك بسرعة دي فرصتي الوحيدة أكون جنبها في الشوية اللي فاضلة.. أنا اتحرمت منها اسبوعين كنت هاموت.. مش هاضيع لحظة تاني.." والتفت متابعا مغادرته..
جلست متعجبا لما سمعت.. هو حب عميق بلا شك في ظروف غريبة.. تمتمت في سري شاردا مطرقا: "أعانك الله على ما ستجد من معاناة رعايتها في مثل هذه الحالة وأنت في هذا العمر.." قاطع شرودي صوته وهو عند الباب دون أن يلتفت: "خدمة أخيرة يا دكتور لو تكلملنا دكتور العناية يسهل مسألة خروجها ربنا يجازيك عنا خير؟؟"..كان بالفعل قد أصبح خارج الباب لم أرد ولم ينتظر ردي..
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى